Sunday 9 December 2012

اللحّــــــاد


سِن...اثنان..و الثالث...أنهى تنظيف سطح أسنانه بظفر إصبعه الأصغر ثم قضم بواقى الطعام من على طرفه و ابتلعه دون تلذذ أو تقزز فهو يؤمن بأنها نعمة من الله و لا يجوز اعتبارها وسخ يجب تنظيفه

ابنة سيد قاطن حوش زكريا أبو المجد تمر من أمامه فى عباءتها السوداء  التى تصف أكثر مما تستر...تتقصع فى ميوعة تجعل الدم يغلى فى رأسه..تضم إلى صدرها مذكرة مهترئة الأطراف تتحدث عن توصيل دوائر الكهرباء فى التليفزيون..يزعق ب "وحدوووووه" مما يدفعها لتقهقه فى دلال مصطنع يزيد من جنونه...تصلح زوجة له بالطبع!...و لكن لِم يتزوجها و هذه العباءة جعلته يحفظ تفاصيلها تماما كما يحفظ تفاصيل هذه المقبرة

يعرف حفظى أن هناك جنازة قادمة بعد أقل من الساعة لذا يذهب لينفض عنه جلبابه ليبقى بملابسه الداخلية..يلتقط القادوم و الشاكوش و يتجه لمقبرة عائلة صبرى.يقضى بعض الوقت فى فتح أحد العيون الأربعة و يترك جوها يتجدد ببعض هواء الأحياء ثم ينسل عائدا إلى غرفته ليلتقط هاتفه المحمول و ينهمك فى محادثة مع أحدهم لحين قدوم الجنازة

يتقدمهم طه ...خطواته متثاقلة..صوت الأزيز لا يفارق أذنيه..دموعه تتساقط من أنفه و كل ما يريد هو أن يختفى فى صدر أى شخص إلى أن يحين أجله هو الآخر.
"الله يا دايم ..هو الدايم..و لا دايم غير الله...لا إله إلا الله...لا إله إلا الله"
هكذا كانوا ينشدون و كأنهم تدربوا لشهور و سنين...كأن أبيه لم يمت منذ اثنتى عشرة ساعة فقط
 !لو أنهم يصمتون و يتركون رأسه لحالها...لو

 يقف حفظى بجوار القبر المقصود عاقدا يديه على صدره و هو يهز رأسه فى فهم..يقترب من طه و هو يخاطبه فى عملية " البقاء لله يا بيه..شد حيلك..المرحوم كان غالى علينا ...ما كانش بيعدى عيد إلا و هو معيدنا...الله يرحمه"
يتصنع طه إبتسامة ...ثم يشرع فى إنزال أبيه إلى داخل العين مع اللحّاد
يخرجان سويا بعد قليل غارقين فى العرق...و يعود طه ليغوص فى دوامة الأزيز الذى يحاصر طبلتى أذنيه و تشرع دموعه فى إنحدار منتظم لامه عليه بعض أعمامه مما دفعه لترديد " ماحدش له دعوة" بصورة بدت للجميع هيستيرية

ينهى حفظى عمله بسرعة مبهرة للجميع...فينقده طه بعض المال و يوصيه بهمس أن يعنى بقبر والده و يزرع بجواره شئ ما

فى عنينا يا بيه "...قالها اللحاد فى ثقة"
ليلة طويلة قضاها طه ما بين قراءة القرآن و البكاء و استرجاع ذكريات بهتت بطريقة أثارت غيظه.....استغل ملامسة عقارب الساعة لبعضها عند السادسة صباحا فارتدى ثيابه و اتجه للمقابر ليتقفد أحوال أبيه فى مثواه الجديد...أخيرا يصل إلى القبر بعد نصف الساعة ليجد أن حفظى قد زرع نبتة صبار صغيرة بجوار القبر فينشرح قلبه قليلا ثم يعود للإنقباض حينما يتذكر حديث شيوخ الفضائيات عن ضمة القبر

تًرى بأى طريقة يضمك قبرك يا أبى؟"...يذرف المزيد من الدموع و هو يتأمل الأسمنت الذى لا يبدو أنه جف تماما بعد"يعلل لنفسه عدم جفاف الأسمنت برطوبة الجو...يبحث عن اللحاد قليلا فلا يجده مما يجعله يؤثر العودة لمنزله ليحزن بعيدا عن أعين الجميع
يلقى نظرة أخيرة على القبر و هو يحاول تخيل جثة أبيه التى تصلبت بفعل الموت ...ثم يولى ظهره للقبر و هو ممتن لحقيقة أن تلك النبتة تخفف عن أبيه بعض من عذابه فى قبره

على ذلك الطريق النائى أنهى حفظى عد ماله الذى ساوم عليه طالب الطب المرتجف و هو يتمتم بين كل مائة جنية و أخرى أصيل!...أصيل يا صبرى بيه!...فى حياتك و فى مماتك..ألف رحمة و نور عليك