Wednesday 13 June 2012

هنتـينجــتون

تجره ساقاه اللتان أنهكهما طول النوم إلى الشرفة....النوم لمده سبعة عشر ساعة متواصلة يقتل ولكنه ليس سبب تلك القتلة التى يشعر بها...قتلته معنوية إن صح التعبير

جيبه الأيسر يترجرج و يصدر لحنا لطالما إعتبره سخيفا لكنه لم يغيره مع ذلك....يلتقط هاتفه و يضيق عينيه المنهكتين ليعرف من المتصل...إنها سلمى خطيبته تتصل للمرة العشرين اليوم...هو يقدر قلقها و لكنه صار مستفزا و بلا داع

هـو: أيوه يا سلمى
سلمى: إيه...ما بتردش على تليفوناتى ليه؟
هـو: كنت نايم...خير ..معصبة ليه؟
 !سلمى: تفتكر إنت ليه
هـو: يا سلمى تعبان و مش قادر أتعامل مع بنى آدمين ...تعبان و مش عايز أشوف حد
سلمى : حتى أنا؟
هـو: بالذات إنتى

سلمى: إنت أكيد بتخرف...هنكمل باقى حياتنا كده إزاى ده لو كنا هنكملها أصلا...أنا خطيبتك و إنت ملزم تفهمنى إيه اللى بيحصلك بالظبط...أنا مش عايزة أقول لأهلى لحد دلوقتى على اللى إنت بتعمله ده
سلمى: إتجننت عليا يوم فرح هدى و مشيت من غير ما تعرفنى حتى إنت رايح فين و النهارده الصبح أعرف بالصدفة إنك نقلت شغلك إسكندرية بسبب ظروفك المرضية.....و فهمت من زمايلك فى الشغل إنك عيان فعلا مش تلاكيك....بقالى اسبوعين مش عارفة أوصلّك...أنا عايزه أفهم دلوقتى فى إيه بالظبط...يا تنزل المحلة يا أجيلك أنا إسكندرية...أنا عايزة أرسى على بر

هـو-بعد صمت طال-: فاكرة لمّا قلتلك إن أبويا مات بسبب مرض إسمه هنتينجتون؟
سلمى : آه
هـو: بعد ما سيبتك و مشيت عديت على أحمد صاحبى فى المستشفى و اشتكيت له من إنى مش مظبوط فى الفترة الأخيرة...عصبى و عندى حركات لا إرادية وكده...أحمد كشف عليا و طلب منى أعمل تحليل لمرض هنتينجتون ده لأن بابا مات بسببه و المرض أصلا وراثى
سلمى: و بعدين؟
هـو: عملت التحليل و إستنيت النتيجة..طلعت بعد تلات ايام إيجابى...ما عرفتش هقولك و لاّ هحكيلك إزاى..طلبت نقلى إسكندرية و من يومها و أنا قاعد هنا
سلمى: و ما جيتليش ليه؟...ما كلمتنيش و لا حتى إهتميت إنك تعرفنى إنت فين ليه؟...هو أنا للدرجة دى مش مهمة؟..كرسى خشب أنا؟

هـو: بقولك ما عرفتش هحكيلك إزاى...أقولك خطيبك إيه...بعد سنة من دلوقتى مش هيعرف يقوم يروح الحمام لوحده!!...أقولك إنى كمان سنتين هتجنن و أبقى مش مسئول عن أفعالى
هـو: أقولك إنى مش هعرف أنفع نفسى عشان أنفعك
...سلمى: طيب حتى تع
هـو: طيب حتى إيه؟!....هتحاولى تضحى بنفسك عشان إيه!...أنا عارف إنى بوجعك بكلامى بس ما ينفعش تتجاهليه..ما ينفعش أصلا تعرفينى تانى...مش  هعرف أقولك إنسينى و الكلام ده
هـو-يغالب البكاء-: بس سامحينى....أنا فعلا آسف على كل اللى إستحملتيه منى الشهر اللى فات

هـو:سيبى والدك و والدتك عليا ...أنا هفهمهم على كل حاجة..إدينى فرصة يومين بس
سلمى: مش بقولك لاغينى من حساباتك
هـو:لو سيبتك فى حساباتى هظلمك..أنا آسف
....سلمى: طيب أنا

هـو: و الله العظيم بحبك و عشان كده ما ينفعش أظلمك
هـو: إسألى دكتور يعنى إيه هنتينتجون ...و ساعتها هتعرفى إنك مش خسرانة كتير
هـو: هتزعلى شوية....بس مش هتخسرى حاجة
سلمى-باكية-: طيب أنا هقفل دلوقتى و أكلمك بعدين...و لو سمحت إبقى رد عليا
هـو
: حاضر ..هارد عليكى


ينهى المكالمة وهو يشعر بإستراحة لحظية ممزوجة بأطنان من الشعور بالذنب و الحزن و الضيق و كراهية الذات و القدر.
...يتمنى لو أن قدميه تحملانه ليتمشى على البحر قليلا و لكنهما لا تفعلان......يتحامل على نفسه و ينهض لكى يعد شيئا يشربه.. حركة لا إرادية من يده تدفعه ليوقع الهاتف فيمتن قليلا ثم يكمل تحركه نحو المطبخ...يتعثر بالبساط مرتين و حركة لا إرادية أخرى من قدمه هذه المرة كانت تكفى لأن يقع و يرطم رأسه بطاولة السفرة أثناء وقوعه

ينهض ليتأمل رأسه فى المرآه القريبة..جرح صغير تسهل تغطيته يقبع فوق حاجبه الأيمن...سيقبع هناك لمده تزيد عن الأسبوع...مده كافية جدا لأن تؤكد عليه يوميا أن حالته لن تتوقف عن التدهور...و كأنه يحتاج لما يذكره

تخرج جارته كعادتها فى هذا الموعد إلى الشرفة مصطحبة العود و كوب الشاى بالنعناع....تجلس هناك كقط متحفز تراقب شقته محدثة نفسها "راح فين المجنون اللى بيسلينى كل يوم ده!"....تساؤل دفعها لأن تصف نفسها بالحماقة

هـى- مخاطبة نفسها-: إيه خلاص الوحدة كلت نافوخك لدرجة إنك بتدورى على الونس فى نور الشقة اللى قصادك ؟

تبدأ عزفها المعتاد و يرتفع صوتها ب "هو صحيح الهوى غلاب" لأم كلثوم

يدخل  إلى الشرفة و هو يحمل كوب القهوة فى يد و شطيرة الجبن فى اليد الأخرى...فيراها جالسة هناك و يتنامى إلى مسامعه صوتها و هى تغنى....هادئة جدا و حتما لا تعرف عن وجوده فى هذا العالم من الأساس

هـو -مخاطبا نفسه-: لو الواحد عنده صاحب زيها؟..ياه

تنسى هى تماما فكرة أن لها جارا فى الشقة المقابلة حتى تنتهى من الغناء...تأخذ بضع رشفات من كوبها و هى تتفحص الشرفة فى إرتياح من إلتقى صديقا قديما

هـى -مخاطبة نفسها من جديد-: إنزلى إتمشى أحسن...شكلك إتجننتى خلاص

 يشتد البرد فيجبره على أن يتوجه إلى غرفة نومه ليجلب سترة ثقيلة بينما تدلف هى إلى الداخل لتهبط سلالم عمارتها متوجهة إلى الشارع كى تتنسم بعض هواء البحر البارد...يعاود هو الخروج إلى شرفته فلا يجدها هناك...يبتأس قليلا لخاطر أن العالم ملئ بهؤلاء الذين تتمنى أن تتجاذب معهم أطراف الحديث لكن الفرصة لا تسنح أبدا.. ثم تحدثه نفسه بأن قدميه قد تتحملا تمشية البحر الآن

 خطوات تعتريها العشرات من إختلاجات العضلات اللاإرادية حتى  يقف أمام البحر...يجول بعينيه فى المكان حتى يجدها واقفة هناك...يسائل نفسها هل هى بالفعل جارته أم أن المرض قد وصل إلى عقله البائس بهذه السرعة! أم أن القدر ألطف مما ينبغى!

 لم يتردد و لا يعرف لم !....يسير نحوها بثقة لم يعهدها فى نفسه من قبل ثم يقف على مسافة كفيلة بألا تفزعها

هـو: مش سخافة و الله...بس المزيكا بتاعتك حلوة
هـى-بإندهاش ممزوج بخبث لم يلحظه-: و حضرتك سمعتنى فين؟
هـو-بإبتسامة بلهاء-: أنا ساكن قصادك...بسمعك لما بتقعدى تغنى فى البلكونة..فى الغالب ما بتبقيش واخده بالك من حاجة
هـى: طيب كويس إن المزيكا عجباك..الجيران أصلهم عايزين يطردونى من العمارة
هـو: غلطانين.. أنا زين بالمناسبة
هـى-بإبتسامة-:  و أنا نادين..

إنتهــت

4 comments:

max.adams said...

مأساة ال"هنتنجتون" تتكرر من جديد
من مجرى الأحداث فهذا حطام انسان يبحث عن موجة تلفظة الى الشاطئ

OldCatLady said...

سلامات يا أبو الفناكيش

ليك وحشة و الله :)

Ang-h-ellic said...

لوهله عدت إلي ملكوت السماوات

شممت رائحة البحر ..رأيت ظلمة الغيوم في الأفق

تذوقت الشاي بالنعناع..أسكرتني موسيقي العود

بوركت أينما كنت و كلما خط قلمك

OldCatLady said...

تعليقك يسوى كتير يا أيمن :)

سلامات :)